كلما اقترب شهر رمضان ازداد ارتباك
الحكومة وأجهزتها المعنية بحالة الأسواق وأوضاع السلع والخدمات. وإذا كانت
هذه ظاهرة متكررة فى كل عام، فهى أكثر وضوحا هذا العام. فالحكومة، التى
بدأ العد التنازلى لها منذ عامين على الأقل، تلاحقها قضايا فساد ويتلاسن
وزراء فيها علناً بشأن بعض هذه القضايا.غير أن دلالات «قضية»
اللحوم والسكر والزيت فى رمضان تتجاوز الحكومة التى تبدو أكثر انكشافا فى
شهر يزداد فيه الاستهلاك ويشتد الضغط على السلع والخدمات. فهذه «القضية»
تكشف مدى تناقض الدولة المصرية التى تقوم حتى الآن بدور البقَّال
والجزَّار، فى الوقت الذى تزعم فيه حكومتها أنها أصبحت إلكترونية وأخذتنا
إلى عصر الثورة الصناعية الثالثة والاقتصاد الجديد.وهذا هو ما
يكشفه أى تحليل لتصريحات صدر بعضها عن وزراء قدموا وصفا تفصيليا لأدوارهم
التى يُفترض أن يقوم بها بقَّالون فى أى دولة حديثة. فهذا وزير يطمئننا أن
أزمة الأرز انتهت قبل بدء الشهر الفضيل، وذاك أيضا وزير يزف إلينا بشرى أن
احتياطى السكر والزيت صار كبيرا.ولم يكن ممكنا أن يتواصل انغماس
وزراء فى هذا المجال إلا نتيجة استمرار إصرار الدولة على عقد اجتماعى مضى
العصر الذى أنتجه حين كان فى استطاعتها أن ترفع شعارات مثل (من الإبرة إلى
الصاروخ). فما زالت الدولة تدعى مسؤوليتها عن المجتمع الذى تخنقه وتوقف
تطوره وتعجز عن مواجهة الفقر الذى ينتشر فى ربوعه بالرغم من أنها تخصص
موارد إضافية لدعم السلع والخدمات كل عام.ولكن هذا الدعم، الذى
تُساء إدارته بسبب قوة الفساد وضعف الأداء الرسمى، لا يكفى لتحسين مستوى
المعيشة فى غياب عاملين أكثر أهمية، أولهما: سياسة اقتصادية ناجحة ترفع
معدلات النمو فى القطاعات الأكثر تأثيرا فى حياة الفئات الدنيا والوسطى
وخصوصا الصناعات التحويلية والزراعة، وليس فى قطاعات التشييد والعقارات
والاتصالات والسياحة فقط. وثانيهما: سياسة اجتماعية رشيدة لمحاربة الفقر
عبر استخدام الأدوات المالية.وفى غياب هذه السياسة وتلك، وفى ظل
شيوع الفساد، تحدث المفارقة الراهنة إذ تزداد مخصصات الدعم بينما تطول
الطوابير التى يختنق فيها الناس سعيا إلى الحصول على خبز وسلع أخرى
مدعومة، وتظهر أزمات لا سابقة لها كما هى الحال فى نقص المياه النظيفة
الصالحة للشرب فى بعض المناطق واختلاطها بمياه صرف صحى فى مناطق أخرى.وهذا
تدهور يفترض أن يكون مخيفا بالنسبة لأى دولة، ناهيك عن أن تكون من نوع
دولتنا التى تدعى الأبوة والمسؤولية عن المجتمع. ومع ذلك لا تريد حكومة
هذه الدولة الاعتراف بالخطر الناجم عن استمرار هيمنتها على المجتمع، لأن
هذا الاعتراف يعنى ضرورة تغيير العقد الاجتماعى الذى تفرضه من أعلى.فاعتراف
الحكومة بأن الدولة لا تستطيع حل مشاكل المجتمع وحدها يلزمها بالإقرار بحق
هذا المجتمع فى المشاركة فى إدارة شؤونه، وبالتالى فى تحديد سياسات هذه
الدولة واختيار من يقوم على تنفيذها. فلكى يشارك المجتمع حقا فى
حل مشاكله ويتحمل نصيبه من الأعباء فى هذا المجال، لابد أن يسترد حريته.
وهذا هو ما تحاول الحكومة تجنبه، أو بالأحرى تواصل سعيها إلى ذلك، حتى
تبقى مهيمنة على المجتمع بالرغم من ازدياد الاحتجاجات الاجتماعية فى غياب
رؤية واضحة للتعامل معها. وهذا فضلا عن الوضع المؤسف الذى يجد بعض
كبار رجالها أنفسهم فيه من وقت إلى آخر مثلما حدث فى الأيام الماضية حين
بدا عدد من أبرزهم كما لو أنهم بقَّالون أو أصحاب «سوبر ماركت» وليسوا
وزراء ورجال دولة.
منقول من المصرى اليوم